الأربعاء، 27 مايو 2015

السيدة العذراء نموذج للمؤمن الحقيقي

السيدة العذراء نموذج للمؤمن الحقيقي
بقلم الأب انتوني كونيارس



الجزء الأول


 ما من بيت مسيحي، وما من كنيسة أرثوذكسية إلاَّ ونجد فيهما أيقونة السيدة العذراء وهي تحمل السيد المسيح ابنها في حضنها أو على ذراعيها. كما ونلاحظ أن وجه السيد المسيح يتميَّز بحيوية الشباب، ليُعلن أنه وحتى في صبوَّته هو " حكمة الله وقوة الله " (انظر1كورنثوس30:1).
هذه الأيقونة تحمل للمؤمن المسيحي أعظم رسالة للبشرية قاطبة، كما تُحدِّد للعابد التقي معنى الحياة والهدف منها، وهي أن يتصَّور المسيح ويتشكَّل فينا، تماماً كما كان في العذراء: " يا أولادي الذين أتمخَّض بكم أيضاً إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم " (غلاطية19:4).

العذراء هي الطراز والنموذج الأول للمؤمنين:
ليست العذراء شخصاً من جبلة أخرى مختلفة عنَّا، ولكنها واحدة منا، وهي النموذج الكامل للمؤمن الحقيقي. العذراء تدعونا لنستجيب لدعوة الله بنفس الإيمان والطاعة التي كانت لها، ليتصوَّر المسيح فينا كما كان فيها. العذراء مريم هي نموذج الكنيسة، وهي التعبير عن إكتمال رسالة الكنيسة. والعذراء هي مثال شعب الله الجديد الذي يسـكن الله ويعيش فـي وسطه: " إنِّـي سأسكن فيهم وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً " (2كورنثوس16:6). مريم تُمثل إكتمال قصد الله من مجيئه إلينا، لأنه جاء ليجعلنا هياكل لله الحي، ومن ثمَّ يتساءل بولس الرسول... " أمـا تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ؟ هيكل الله مقدَّس الذي أنتم هو " (1كورنثوس16:3و17)، وكما كانت مريم هيكلاً مصوناً لله، علينا أن نكون نحن هكذا.
عيناي قد أبصرتا خلاصك:

  كتب راهب من الكنيسة الشرقية يقول: " كل نفس يجب أن تكون هيكلاً لله، ذاك الذي أحضرت مريم يسوع إليه. وكل واحد منا يجب أن يكون مثل سمعان، يحمل الطفل على ذراعيه ويقول للآب: " لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك ". وصلاة سمعان: " الآن تُطلق عبدك حسب قولك بسلام "، لا تعني ببساطة أن الذي يرى يسوع ويحمله على ذراعيه يمكنه الآن أن يغادر الحياة ويموت في سلام، ولكنها تعني أيضاً أننا بعد أن نرى يسوع ونلمس المُخلص، فإننا نتحرر من نير الخطية الذي علينا، كما يمكننا أن نتخلص من حوزة الشرير لننطلق في سلام "
الثيئوتوكوس تتكلَّم:
  صورة العذراء وهي تحمل السيد المسيح تبعث لنا رسالة هامة كما لو كانت تقول لنا: " انظروا! إن هذا الذي ترونه وهو ربُّ المجد وسيدُ العالم، قد صار صغيراً وفقيراً وقابلاً للألم من أجلكم. ها قد أتى إليكم مُقترباً جداً إليكم كطفل. هو يريدكم أن تحملوه على ذراعيكم وتخبئوه في قلوبكم، لتجدوا فيه خلاصكم من الخطية والموت. انظروا! الغني افتقر لأجلكم، كي تغتنوا أنتم أيضاً بفقره غنى أبدياً (2كونثوس9:8 ".
خذوا يسوع هذا من على ذراعي العذراء، إنها تهبه لكم. خذه كما أخذه سمعان منها. احتضنه وقبله وأحببه وأطعه واتبعه. فيه ستجد السلام، فيه سوف ترى بعينيك وتذوق عملياً خلاص الله. لم يُعبر أحد عن رسالة العذراء وهي تحمل المسيح مثل بولس الرسول. إنها رسالة أن يتصور المسيح فينا، تلك الرسالة التي تتركز على سُكنى المسيح داخلنا. يستخدم القديس بولس عبارة: " في المسيح in Christ " 164 مرة في رسائله، هذا التعبير الذي لم يستخدمه أحد آخر في الكتاب المقدس. لقد نَحَتَ القديس بولس هذا التعبير واستنبطه ليشير إلى إختبار فريد وجديد تماماً عن الذي يعيش، ومع ذلك لا يعيش، ولكن المسيح هو الذي يحيا فيه. يكتب بولس الرسول عن ذلك في رسالته إلى أهل غلاطية فيقول: " أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ... يا أولادي الذين أتمخَّض بكم أيضاً إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم " (غلاطية20:2، 19:4). يُصوِّر بولس الرسول نفسه حاملاً المسيح في أحشائه كالعذراء الحُبلى به.
من هو المسيحي:
تُعطى إجابات مُتنوعة لهذا السؤال. قد يُقال إن المسيحي هو ذلك الشخص الذي يعترف أن المسيح هو ابن الله الحي، المسيَّا والمُخلص. وقد يُقال إن المسيحي هو ذاك الذي يُكيف نمط حياته بما يتفق مع تعاليم السيد المسيح. المسيحي هو الشخص المُعمَّد. المسيحي هو من يذهب إلى الكنيسة كل أحد. المسيحي هو الذي يحب أعداءه ويُصلي لأجل الذين يسيئون إليه. المسيحي هو الذي يتقبَّل الأسرار الإلهية. المسيحي هو مَن يُسلِّم حياته ليسوع كَرَّب وسيِّد. هذه كلها إجابات جيدة، ولكنها تظل ناقصة، لأنها أهملت أهم حقيقة للإنسان المسيحي الحقيقي، ألا وهي أن المسيحي هو مَن يحيا المسيح فيه، المسيحية ليست هي مجرَّد التركيز على شخص المسيح Christocentrism ، بقدر ما هي أن يحيا المسيح فينا Christification . يقول القديس بولس: " المسيح يحيا فيَّ "، أي أن أتحد به، أن أتبعه، أن تكون لي شركة مع الآخرين الذين في المسيح من خلال الكنيسة.
المسيح يحيا فيَّ

 من ثم لا يمكنني أن أكون مسيحياً ما لم يحيا فيَّ وأنا فيه في نسيج جسده؛ الكنيسة. ما يريده المسيح هو من خلال ما أريده، ما يُفكر فيه المسيح من خلال تفكيري، وحبه من خلال حبي، وهو يعمل من خلال أعمالي. الإنجيل الحقيقي ليس هو أن يحث الناس ليكونوا صالحين وأن يفعلوا الصلاح بحسب ما هو مُتداول: " جاهد لتكون صالحاً "، هذه نصيحة جيدة ولكنها ليست الإنجيل. الإنجيل الحقيقي هو أن تفتح الباب مثلما عملت مريم ليتصور المسيح في داخلك، ليسكن ويقيم فيك، ليغفر لك، ليُغيِّر شخصيتك، ليُحررك، ليملأك بقوته، بنوره وضيائه وبهائه، ليغمرك بحبه وسلامه وفرحه. هذا هو إنجيل يسوع الحقيقي، أحيا: " لا أنا "، بل: " المسيح يحيا فيَّ "، ليتربع على عرش القلب، يُدير ويُدبر الحياة ويقويها. ليس أن يضبط الإنسان نفسه بقدر ما يكون المسيح هو الضابط والمُحرك والموجه للحياة.
كم هو ضروري ونافع لأنفسنا وأرواحنا أن نحيا في المسيح والمسيح يحيا فينا! السيد يعطينا تأكيداً لهذا من خلال قوله: " أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً. إن كان أحد لا يثبت فيَّ يُطرح خارجاً كالغصن، فيجف... " (يوحنا5:15و6). الأزمة الحقيقية التي نعاني منها في جهادنا في عالمنا هي بسببك وبسببي، لأننا نحاول أن نحيا الحياة المسيحية بدون وجود المسيح الساكن فينا. هذا الأمر لا ينفع. يقول يسوع: " بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً ". هذا هو سبب وجود صورة الثيئوتوكوس بإستمرار في كنائسنا وبيوتنا، العذراء وهي تحمل ابنها، مثالاً لما يجب أن يكون عليه كل مؤمن حقيقي، يسوع يسكن ويحيا فيه.
إلهنا في الداخل:
المسيح إله ملازم، حالُُ ومُقيم، وهذا هو تسميته: " عمانوئيل، الذي تفسيره: " الله معنا "، ومن ثم لا يصبح الهدف المركزي للإنجيل هو أن يتصور المسيح فينا: (غلاطية19:4)، بل أيضاً: " يحل المسيح.. في قلوبنا " (أفسس17:3). جيد أن يكون الله معنا: " إن كان الله معنا، فمن علينا ؟ " (رومية31:8 " لا تخف لأني معك " (اشعياء10:41)، ولكن من الأجود أن يكون الله فينا: " ليكونوا هم أيضاً واحد فينا " (يوحنا21:17). الله معنا، هذا جيد؛ الله لنا، هذا أفضل؛ الله فينا، هذا أفضل الأفضل! مع أن القديس يوحنا لا يستخدم التعبير: " في المسيح " كما يستخدمه بولس الرسول، ولكنه يستخدم تشبيه الكرمة والأغصان، الذي يؤدي نفس الغرض لحد كبير. حياة الكرمة (يسوع) هي في الأغصان (نحن)، وهي التي تُمكننا حقيقة أن نحيا حياة حقيقية و " نعطي ثمراً كثيراً ". إن سر إعطاء ثمر كثير ليس هو في التعب الزائد ولا في اللف والدوران، ولكن في الثبات في المسيح. يطلب السيد المسيح في صلاته الكهنوتية العظيمة في الأصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا من أجل تلاميذه ليكونوا: " فيه "، ويكون هو: " فيهم "، كما أن الآب " فيه "، وهو: " في الآب ". السيد المسيح يُعبر هنا عن علاقة صميمة بينه وبين المؤمن، كالتي قالها القديس بولس: " الحياة في المسيح ".

السيدة العذراء نموذج للمؤمن الحقيقي
بقلم الأب انتوني كونيارس




الجزء الثاني
التخصيب بكلمة الله:
 يمكننا نحن أيضاً أن نُخصَّب بكلمة الله لنحمل حقيقة وجود المسيح في حياتنا. عندما تقع بذرة كلمة الله في تربة قلوبنا المخصبة وتمتد جذورها، عندئذ يولد المسيح فينا. نجد في قراءات الكنيسة في موسم صوم العذراء المكتوب: " طوبى للثديين الذين رضعتهما "، ونجد ردَّ يسوع: " بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه " (لو28:11).
هذا ليس إقلالاً من قَدْرِ العذراء ولا حطاً من شأنها! حاشا! لقد كانت حقاً واحدة مثلنا، ولكن ما فعلته تدعونا نحن أيضاً أن نفعله، أن نسمع كلام الله وأن نحفظه. كانت هذه رسالتها بل ورسالتنا نحن أيضاً! يقص لنا إنجيل آخر بهذه المناسبة عن مجيء قوم إلى يسوع يقولون له: " هوذا أُمك وإخوتك خارجاً طالبين أن يُكلِّموك! " فكانت إجابة يسوع لهم: " مَن يسمع كلام الله ويعمل به، هو أُمي وأخي وأختي ". يُعبِّر القديس أمبروسيوس عن هذا جيداً فيقول: " كل نفس مؤمنة تحمل وتلد كلمة الله؛ المسيح، بواسطة الإيمان، هو ثمرة لنا جميعاً. وهكذا نكون جميعاً أُمَّا للمسيح ". نفس المسيح يأتي ليولد فينا، ويسكن في داخلنا، تماماً مثلما عمل بالثيئوتوكوس.
إن لم يكن المسيح فينا، فليس لنا خلاص: كتب شخص روحي شهير ذات مرَّة فقال: " هذا هو كل مفاد الإنجيل؛ ميلاد المسيح داخلنا، حياته الغالبة لموتنا الداخلي، فالمسيح إن لم يكن داخلنا، فهو مسيح ليس لنا ". هذا يشبه تماماً شخصين مصابين بمرض مميت، ولا شفاء لهما إلاَّ بعقار البنسلين، وكلاهما مقتنع تماماً بذلك، ومع هذا فأحدهما يتناول الدواء والآخر لا يقوم بهذا، والنتيجة أن أحدهما يبرأ والآخر تُعالجه الوفاة. " المسيح إن لم يكن فينا، فهو ليس لنا ". ليس لنا أو فينا صلاح بدون المسيح. المسيح فينا هو الذي يُقوينا ويُنقذنا ويُخلصنا.
في العالم، وليسوا من العالم:
 يطلب منَّا السيد المسيح أن نعيش في العالم، مع أننا لسنا من العالم. لا مفر لنا من أن نوجد في العالم، أمرُ مستحيل تجنُّبه ولا خيار لنا في ذلك، فالله هو الذي أوجدنا فيه؛ أمَّا إختيارنا ألاَّ نكون من العالم، فهذا أمر يكون بمحض إرادتنا ويتعلق بأهدافنا الروحية والسلوكية والأخلاقية. من الصعوبة بمكان ألاَّ نكون من العالم، فهناك ضغوط شديدة جداً واقعة علينا، من الداخل ومن الخارج، ويصعب جداً علينا أن نقاومها، ولكن هؤلاء الذين هم في المسيح هم الذين يستطيعون أن يغلبوا العالم، فالذين هم في المسيح قد غلبوا الأهواء والشهوات: " لأنكم أقوياء... وقد غلبتموهم، لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم " (1يوحنا14:2، 4:4). وجود المسيح فينا يعطينا النعمة والقوة التي نحتاجها لنحيا حياة النصرة. نحن في العالم ولسنا من العالم لأننا في المسيح. عبَّر ب.ت.فورسيث P.T.Forsyth عن هذا جيداً عندما قال: " إن لم يكن فينا مَن هو فوقنا، فنحن سنستسلم وسنسقط تحت مَن هو حولنا ".

خليقة جديدة: المسيحية ليست مبادئ أو مراسم أو قوانين أو أخلاقيات، إنها أول وأهم كل شيء غزو وإمتلاك كامل لنوع جديد من الحياة يدخل فينا، هذا الذي يُسمَّه القديس بولس: " جدة الحياة ـ الحياة الجديدة kainotis zois – newness of life "، نوع سام متفوق من الحياة، وهو ليس إلاَّ حياة المسيح الشخصية فينا. لذلك، فهذه الحياة الجديدة التي يسكبها المسيح فينا هي تلك التي يقول عنها بولس الرسول: " الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً " (1كورنثوس17:5). تماماً كما أنه لا يمكننا أن نعيش جسدياً إن لم يكن الهواء فينا ونحن في الهواء، هكذا الوضع بالنسبة للمسيحي، فالرب يسوع هو هواء الحياة ونسيمها. المسيحي يعي ذلك جيداً ولا يمكنه أن يعيش بدون المسيح. وكما أنه لا يمكن لرجل الفضاء أن يحيا لحظة واحدة في الفضاء الخارجي إن كانت الملابس التي يرتديها هي تلك التي يرتديها في الغلاف الأرضي، بل زيِِّ خاص، هكذا الإنسان المسيحي يحمل في نفسه دائماً المسيح: " قد لبستم المسيح " (غلاطية27:3)، وبه يحيا ويتحرك ويتنفس ويوجد ويعيش في جوِّه وفضائه الخاص: " أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ " (غلاطية20:2). يكتب القديس بولس عن المسيح الذي فينا ويقول عنه: " المسيح فيكم رجاء المجد " (كولوسي27:1). إنه هو الذي ينير أذهاننا وجميع أفكارنا ودوافعنا، إنه هو عصب شجاعتنا الأخلاقية، وهو الذي يبدِّد الموت والخطية ليمكننا أن نشترك في مجد الله الأبدي. ليس المسيح الذي في الخارج، ولكن المسيح الذي فينا هو رجاء المجد.
مسيحُ مُقيم:
إن كان شكسبير Shakespeare يحيا فيك، ستستطيع أن تكتب أعظم الأشعار. إن كان هاندل Handel يحيا فيك، فسوف تُصنِّف أعظم المقطوعات الموسيقية. وإن كان السيد المسيح يحيا فيك، فستحيا حياة تقوية رائعة. ولكن ليس هذا حقيقياً في الواقع، لأنه لن يمكن أن يكون شكسبير أو هاندل فيك، ولكن يمكن أن يحيا المسيح فيك؛ هذا الذي جعل القديس بولس يقول بكل جرأة: " أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويِّني " (فيلبي13:4). لاحظ أن القديس بولس لم يقُل: " بعض الأشياء "، بل قال " كل شيء ". من فَعَل أكثر ممَّا فعله القديس بولس ؟ مَن تألم مثلما تألم ؟ مَن كَرَز مثلما كرز ؟ مع أن القديس بولس لم يكن واحداً من الأثني عشر، إلاَّ أنه سافر وتعب أكثر من جميعهم، وحصد للمسيح أثماراً لا تُحصى للحياة الأبدية. كل ما فعله بولس كان من القوة التي نالها من المسيح الذي فيه. حقاً: " الذي فيكم أعظم من الذي في العالم " (1يوحنا4:4).
قصة: الشهيدة فيليستاس كمثال: دعني أُشارككم ماذا كانت تعني عبارة: " المسيح يحيا فيَّ " عند الشهداء المسيحيين الأوائل. واجه جمع من المسيحيين الإستشهاد في قرطاجنة بأسبانيا عام 203م، واقتيدوا إلى الحلبة لمصارعة الوحوش، وكانت واحدة منهم فتاة عبدة تُدعى فيليستاس، وكانت حاملاً في الشهر الثامن، فمن ثمَّ أُرجئ إلقاؤها إلى الوحوش بحسب القانون الروماني لحين وضعها لطفلها. اشترك رفقاؤها في الصلاة لأجلها، وللتو فاجأتها آلام المخاض، وعند هذا الحدث يمكننا أن نقرأ ما حدث لها في أعمال الشهداء: " تألمت فيليستاس كثيراً أثناء ولادتها بسبب مشقة الولادة في الشهر الثامن، وهنا سألها أحد الحراس: " إن كنت تتألمين بهذا الشكل الآن، كم سيكون الحال عندما تُلقَيْنَ للوحوش ؟ هل فكرتِ في الأمر جيداً قبل أن ترفضي تقديم الذبائح للآلهة على شرف الإمبراطور ؟ ". أجابته فيليستاس بشجاعة الرجال وبطولة المؤمن الحقيقي الوثَّاب: " الآلام التي أتألمها الآن هي لأجل نفسي، أمَّا ساعة الإستشهاد، فالذي في داخلي والذي أحيا له وهو يسكن فيَّ هو الذي سيتألم لأجلي مثلما سأتألم تماماً لأجله ". كان السيد المسيح حقيقة موجوداً بشخصه وقوته في حياة فيليستاس، وإلاَّ فكيف يمكننا أن نشرح هذه الشجاعة الفائقة للقدرة البشرية للإعتراف بالمسيح في مواجهة الموت ؟ المسيح نفسه يشتاق ويتوق أن يسكن فيك مثلما سكن في الثيئوتوكوس وعاش في فيليستاس، ليعطيك نفس القوة والشجاعة لتستطيع أن تعمل كل شيء به ولمجده.
السيدة العذراء نموذج للمؤمن الحقيقي
بقلم الأب انتوني كونيارس




الجزء الأخير


كيف يتصوَّر المسيح فينا:
كيف يمكننا أن ننال حياة المسيح تلك التي نتكلم عنها ؟ كيف يمكن للمسيح أن يكون حقيقة فينا ؟ كيف يمكن أن يتصوَّر فينا ؟ تبدأ حياتنا في المسيح عندما نعتمد من الماء والروح في الكنيسة، من خلال المعمودية نحن: " نلبس المسيح " كما يقول القديس بولس: " لأنكم كُلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح " (غلاطية27:3). وبكلمات أخرى، الحياة في المسيح ليست هي مجرد علاقة سرية بسيطة بين المسيح والمؤمن، ولكنها موضوعياً مؤسسة على عضوية المؤمن في الكنيسة التي هي جسد المسيح المُشاهدَ والمنظور. لم يُدْعَ المسيحي ليُشابه المسيح، لكن ليحيا في المسيح، وحتماً لن توجد مُحاكاة للمسيح إن لم يسكن المسيح نفسه فينا. يؤكد الأب اللاهوتي نيقولاوس كابازيلاس Nicholas Cabasilas على ذلك عندما يقول: " ليست حياة في المسيح بدون معمودية، أو مسحة الميرون أو تناول ".
التناول:
كما أن المعمودية هي سر: " جدَّة الحياة "، هكذا التناول المقدس هو: سر " الحياة في المسيح "، كما يؤكد الرب على ذلك في قوله: " من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه " (يوحنا56:6). للأب سمعان اللاهوتي نظرة لحياة المسيح فيه بعد أن عاد يوماً من الكنيسة بعد أن تناول الأسرار الإلهية. كان ينظر إلى يديه الضعيفتين الواهيتين ويرى فيهما يدي المسيح. كان ينظر إلى جسده وقد هرِم وشاخ ويرى فيه مكاناً لسكنى المسيح.
التغذية بالإيمان:
ومع أن الحياة في المسيح تُعطى لنا كعطية من نعمة الله المجانية من خلال المعمودية والميرون والتناول، إلاَّ أنه يلزم أن تّغذى بالإيمان. أشار المغبوط أغسطينوس منذ قرون سابقة طويلة فاتت إلى أن ما هو ملاحظ عن والدة الإله ليس هو حملها للمسيح في جسدها فقط، فقال: " كانت العذراء مريم مغبوطة بالأكثر لأنها أمسكت بالإيمان بالمسيح أكثر مما حملته في الجسد. إن علاقة أمومتها له كانت ستصير بلا منفعة أو فائدة إن لم تكن قد حملت بالمسيح في قلبها أكثر من بطنها ".
إيمان شخصي:
إيمان العذراء جعلها تقول: " نعم " لطلب الله. هكذا بالمثل لنا أيضاً، إيماننا يجب أن يقول: " نعم " لله من قبل أن نحمل بالمسيح. هذا يعني أن الإيمان الذي أقرَّ به والداي أو جداي عندما اعتمدتُ كطفل عليَّ أن أعترف به الآن شخصياً وبكامل رغبتي وإرادتي ووعيي. يجب أن يصير: " إيماني أنا ". هذا هو ما نُدعى إليه في كل قداس عندما نتلو قانون الإيمان النيقاوي الذي نُعلن فيه إيماننا الشخصي علنياً، ومن ثمَّ علينا ألاَّ نتلوه روتينياً أو ميكانيكياً أو سطحياً، بل نتلوه بكل قلبنا وعقلنا. كما أنه يجب علينا أيضاً أن نعترف بهذا الإيمان في صلواتنا الخاصة في مخدعنا. صورة الثيئوتوكوس وهي تحمل طفلها على صدرها يُذكرنا بأهمية أن نحمله ليتصور فينا. وهذا هو كل معنى الحياة. العذراء تُشير لنا أن الإنسان المسيحي هو من يحيا المسيح فيه، كما تدعونا أن نقبل داخلنا بالإيمان، وبكلمـة الله، وبالتنـاول، ذاك الـذي حملته سابقاً في أحشائها، لنكون نحن أيضاً: " حاملي الله THEOFOROI, i.e.. God – bearers لنهب العالم الميت مسيحاً حقيقياً متجسداً وعائشاً حياً فينا. تقف العذراء أمامنا في الصورة لتقودنا وتدعونا للصلاة لأبنها. العذراء وهي واحدة معنا، هي الأولى في إختبارها لشركة الطبيعة الإلهية. العذراء مثل سلم تُوحِّد السماء بالأرض، لأنه من خلالها جاءنا السيد المسيح؛ ونحن بالإيمان، مثل العذراء يمكننا أن نصعد إليه.
الخطوة التالية في التطور:
قال س. إس. لويس C. S. Lewis: " يسأل الناس كثيراً عن الخطوة التالية في التطوّر، عن شيء يفوق الإنسان والإنسانية. حسناً، من وجهة النظر المسيحية قد حدث التطور بالفعل. في المسيح تكوَّن إنسان جديد، ونوع الحياة الجديدة التي بدأت في المسيح قد دخلنا فيه ". هذا النوع الجديد من الحياة جاء أولاً إلى القديسة مريم عندما قالت: " نعم " لله، وهذا بالضبط هو الخطوة التالية في تطور الإنسان، لأن الإنسان عندما يأخذ نوعاً جديداً من الحياة؛ حياة الله؛ فإن الطبيعة البشرية تتجلى وترتقي: " من مجد إلى مجد " حسب تعبير القديس بولس.
قصة:
أُقيم قسُّ جديد في إحدى القرى، وذهب لزيارة أحد الأكواخ، ولم يكن الزوج موجوداً، هذا الذي عند عودته من عمله أبلغته زوجته عن مجيئه. سأل الزوج زوجته: ماذا قال ؟ فأجابته، لقد سألني: " هل المسيح يحيا هنا ؟ " ولم أعلم بماذا أجيبه.
 قال الزوج وقد احمرت وجنتاه: " هل أخبرِته أننا أشخاص محترمون ؟ "
أجابته زوجته: " حسناً، أظن أنني قلت له هذا، ولكن لم يكن هذا هو ما يسأل عنه ". قال الزوج وهو مندفع: " ألم تخبريه أننا نتلو صلواتنا ونقرأ إنجيلنا ؟ " أجابته زوجته: " ولكنه لم يسأل عن هذا ". أظهر الزوج مزيداً من الإمتعاض وقال: " ألم تخبريه أننا نذهب دائماً إلى الكنيسة ؟ " أجابته زوجته المسكينة وهي منهارة تماماً: " ولا هذا أيضاً سأل عنه. إنه سأل فقط: " هل المسيح يحيا هنا ؟ " كل مرة نذهب فيها إلى الكنيسة للعبادة، نجد العذراء والمسيح في حضنها تسأل كلاً منَّا نفس السؤال: " هل المسيح الذي يحيا فيَّ يحيا فيكم أنتم أيضاً ؟ "

صــلاة
لا أصلح لشي، بدون المسيح الذي يعطيني القوة. أظل قاسي القلب، بدون سيدي الذي يعطيني أن أبصر وأشعر بآلام الآخرين وأوجاعهم. أنا وحيد، إن حاولت أن أشق طريقي بدونه. أنا ضعيف وعديم القوة، إن ظننت أنني أستطيع أن أعمل شيئاً بقوتي بدونك. أنا بائس ويائس ومُحطم، إن ظننتُ أنني أستطيع أن أعيش بنفسي، فكفايتي منك وفيك. أنا ضائع، إن ظننتُ أن نجاحي في العمل هو هدف الحياة. سأظل مُتعثراً، طالما لم ترشدني أنت وتهديني الطريق.
سأظل لا شيء،
إلى أن تُصيرني أنت شيئاً. تعال، أيها الأبن الإلهي، واجعل لك مسكناً داخلي. لك المجد أيها الثالوث القدوس. آمين.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق