القديسة
العظيمة السيدة العذراء مريم
أعجوبة كنيسة السيدة العذراء بأتريب (بجوار بنها)
فى زمان خلافة هارون الرشيد حكم مصر والى ظالم اضطهد المسيحيين وأذاقهم ألوان
العذاب، وأمر بهدم الكنائس. فأرسل قوادا من أعوانه لكل مكان، ومعهم أوامر مشددة من
الخليفة بهدم كل كنيسة فى طريقهم، واستمروا على هذا الحال ينتقلون من بلد لأخرى حتى
وصلوا مدينة تسمى أتريب، وكان بها كنيسة على أسم السيدة العذراء، وكانت مبنية بناء
فاخرا، وبها أعمدة من الرخام، ومغشاة بالذهب- وما أن شعر كاهن الكنيسة بوصولهم حتى
دخل الكنيسة وصلى صلاة حارة بدموع، وطلب من السيدة العذراء صاحبة البيعة أن تعينه
فى تلك الساعة الرهيبة. ثم خرج الى الأمير وأتى به الى الكنيسة وأراه ما فيها من
نفائس وذهب، وأراه أيضا أيقونة السيدة العذراء وقال للأمير، أممهلنى ثلاثة أيام حتى
أتيك بأمر الخليفة الرشيد باعفاء هذه البيعة من الهدم، فضحك الأمير قائلا: ان
الخليفة فى بغداد، وبيننا وبينه سفر لا يقل عن شهرين، فكيف تقول أنت انك تأتى منه
بأمر بعد ثلاثة أيام؟ هذا ليس بمعقول.
فقال الكاهن أنى بكل تأكيد سأحصل على هذا الأمر، حتى ولو كان الخليفة أبعد من هذا،
وأنى فى هذه الأيام ملزم بنفقات اقامتك أنت ومن معك، وأخرج الكاهن من جيبه 300
دينار وسلمها للأمير. وبعد الحاح شديد رضى الأمير أن يمهل الكاهن هذه الثلاث أيام
قائلا له: أعلم تماما أنه لابد أن تهدم هذه الكنيسة بعد ثلاثة أيام. فأجاب الكاهن:
ان لى أمل عظيم فى أن السيدة العذراء التى حلت الحديد وخلصت متياس قادرة أن تمنع
عنا تهديدك هذا، وهى تحامى عن بيعتها، ثم هرع الكاهن الى حيث أيقونة السيدة العذراء
وجثا أمامها، وصلى بحرارة قائلا: "غيثينا أيتها العذراء الطاهرة ولا تجعلى أعداءنا
يشمتون فينا، وان كنا قد أخطأنا فسامحينا. واننا قد ألقينا هذا العبء الثقيل عليك
فاسألى ابنك عنا. فهذا هو الوقت الذى تظهر فيه قوتك العظيمة، فأسرعى ياسيدتى
لنجدتنا حتى لا تهدم بيعتك، وكيف يمكن أن نصير عارا بين البشر وأنت معنا يأم الله".
وهكذا أخذ الكاهن يصلى، ودموعه تسيل على وجنتيه، وهو لم يذق طعاما حتى خارت قواه من
الجوع، وهو مازال متمسكا بايمانه ورجائه الثابت.
حينئذ نطقت السيدة العذراء من الأيقونة قائلة: أنا العذراء المعينة لكم، لا تخافوا
من تهديد الأمير فقد عملت لك كل ما طلبت وسوف يأتيه الأمر بالعفو عن هذه البيعة من
رئيسه الأعلى فى الحال.
وفى أثنا صلاة الكاهن وكان ليلا، كان الخليفة نائما فى بغداد، فاذا به يرى نورا
ساطعا الهيا فاستيقظ من نومه مرتعدا فرأى العذراء والدة الاله القدير، فاضطرب
لساعته وفزع جدا من منظرها المهوب فقالت له: أنا مريم أم يسوع الذى فعلت معه كل هذه
الشرور، ودبرت حيلك، وأمرت بهدم الكنائس، فكيف تنام هادىء البال، وبسببك أصبح
المسيحيون فى كل مكان فى أشقى حال؟ أنا العذراء أم الاله الذى بإرادته أعطاك هذا
السلطان، فارجع وتبعن أعمالك، واخش الله وإلا سيكون لك عذاب أليم، وتقاسى شدائد
مرة، وأتعابا كثيرة حتى تشتهى موتك عن حياتك. فارتجف الخليفة قائلا: كل ما تريدينه
يا مولاتى أفعله لك، ولا تؤذيننى ياسيدتى.
فقالت: "أريد أن تكتب حالا مرسوما بخط يدك وتختمه بخاتمك وترسله لأعوانك الذين فى
أتريب ليصلهم اليوم، ويمنعهم من تخريب الكنائس والاعتداء على المسيحيين". فقال لها
الخليفة: وكيف يصل اليوم فان هذا لا يمكن لا بالبحر ولا بالبر. فأجابته: أكتب
المرسوم، وبعون الله سوف يصل فى يد الأمير قبل أن يقوم من نومه، فارتعد الخليفة من
هذا السلطان الذى تكلمت به، وكتب بيده مرسوما الى الأمير الذى فى أتريب: "أنا
الخليفة هارون الرشيد أكتب بيدى هذا المرسوم فأسرعوا بالحضور حالا ولا تتعرضوا
للمسيحيين فى هدم كنائسهم وبادروا بسرعة الى". ثم ختم الخطاب وبهت متحيرا ماذا
سيحدث بعد ذلك. واذا بطائر له منقار أتى، وخطف الخطاب من يده وطار بسرعة ثم اختفت
العذراء من أمامه، وبعد برهة وجيزة كان الطائر فى مدينة أتريب وجاء حيث كان الأمير
جالسا ورمى الخطاب عليه وطار.
فتح الأمير الخطاب وهو مذهول. واذا به من الرشيد يأمره بضرورة العودة فى الحال.
قرأه مرة وأعاد قراءته، ثم أمعن النظر فى الختم، وفى خط الرسالة فاذا كله من
الرشيد، فتعجب وتحير، ولكنه ارتاب، فأرسل الى الكاهن فحضر بسرعة وقال له: اخبرنى
ماذا فعلت، ومن خلصك هذا الخلاص العجيب وأتى لك بهذا العفو الشامل؟
حينئذ أجابه الكاهن بملء الايمان، وبقلب مملوء ابتهاجا: ان هذا ليس عمل انسان
منظور، بل أنه فعل أم النور والدة الاله التى تسهل لنا كل طريق، وتحمل عنا كل ثقل.
ثم قص عليه الكاهن صلاته واستجابتها من الأيقونة، فبهت الأمير وآمن بالسيد المسيح،
ودخل الى الكنيسة وقبل أيقونة العذراء وتضرع اليها لكى تسمع له هو أيضا وتحرسه فى
سفره. ثم أخرج الأمير الثلثمائة دينار التى أعطاها له الكاهن وردها له، وأعطاه عليه
مئة دينار أخرى كتذكار. ثم قام مسرعا وترك الكنائس وذهب الى بغداد حيث قابل الخليفة
فوجده متحيرا. وبعد تبادل السلام سأل الأمير فورا: يا مولانا جأتنا منك رسالة فهل
هذا صحيح أم تزوير؟ قال له الخليفة: ان الرسالة منى، ولكن أعلمنى سريعا عما جرى.
فقص الأمير على الخليفة كل ما رآه فى مدينة أتريب، وقصة الكاهن والخطاب والطائر.
فقام الخليفة فى الحال وقال: سوف نبنى كنيسة للمسيحيين على اسم السيدة العذراء أم
النور لتكون عونى فى حياتى وتخلصنى من الشرور المحيطة بى، وتكون هذه الكنيسة أفخر
من سائر المعابد التى رأيناها فى حياتنا.
وفعلا ابتدأوا باجتهاد فى بناء الكنيسة ووضعوا بها نفائس كثيرة وأيضا أيقونة للسيدة
العذراء. وهناك اجتمع المسيحيون المشتتون.. اجتمع المسيحيون المضطهدون للصلاة بفرح
وتهليل بعد أن كانوا فى زوايا الأرض وكهوفها ومغاورها مختبئين خائفين من هول ما وقع
عليهم من عذاب.
وهكذا بفضل شفاعة السيدة العذراء انتصرت المسيحية، وارتفعت راية الصليب، وبطلت
مشورة المعاندين.
شفاعتها تكون معنا وتحرسنا جميعا. آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق