الأربعاء، 23 يوليو 2014

اللص التائب

اللص التائب

«فقال له يسوع الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23 : 43).


مقدمة

لست أظن أن هناك وصفًا أقسي وألذع من وصف برنارد شو لجليسة ودرو ولسون في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وعلى جانبيه كليمنصو الفرنسي واللورد لويد الإنجليزي عند توقيع معاهدة الصلح مع ألمانيا، إذ قال عن الثلاثة : لقد جلس المسيح بين لصين، ومهما يكن من قسوة الكاتب الساخر في التعبير، فإنه لم يخرج عن دائرة الصواب، إذ كان ولسون باعتباره رجلاً مسيحيًا يريد أن يعيش العالم بالمبادىء المسيحية الصحيحة يجاهد وسعه الجهد لكي يكبح جماح الإنجليز والفرنسيين وهم يريدون الانتقام من الألمان، ووضعوا بذلك - عندما عجز عن كبح جماحهم - الأساس للحرب العالمية الثانية!! ... ولعله مما يجدر ملاحظته كثرة ظهور اللصوص في مسرحية الصليب، فهناك اللص الذي ارتدى ثياب الدين، والذي حول بيت الله إلى مغارة لصوص، ولم يكن قيافا أو حنان أو رجال الدين الذين قادوا الأمة في ذلك الوقت إلا اللصوص الذين اتخذوا من الدين ستارًا لأبشع السرقات وأحطها، وهناك بارباس الوطني الذي تحول لصًا، وأخذ المسيح مكانه يوم الصليب، وهناك اللذان صلبا عن يمين المسيح وعلى يساره، وفي الحقيقة إن الصليبدائمًا يعري الناس ويمزق عنهم ثيابهم، ويظهرهم على حقيقتهم، وإن شئنا الدقة، فجميع الناس أمام المسيح لصوص سلبوا الله حقه والفرق بين لص وآخر، هو الفرق بين لص يتوب واخر يستمر في إثمه وشره للحظة الأخيرة!! وإذا كان هناك مثل يقول : «هناك طريق إلى الجحيم من باب السماء، لمن يرتد عن الإيمان، فإن العكس أيضًا صحيح فهناك طريق إلى السماء من باب الجحيم، وقد شاء الله في إرادته العظيمة العالية أن يجعل قصة اللص التائب نموذجها الخالد على مدى الأجيال، ويحسن لذلك أن نتابع القصة فيما يلي :


اللص
وحياته

ومن هو هذا اللص!!؟ أهواللص الذي كان عن يمين المسيح أم عن يساره؟ لسنا نعلم، لأن الكتاب لم يحدد ما يذهب إليه التقليد من أنه اللص الذي كان عن اليمين، وربما جنح التقليد إلى ذلك على اعتبار أن السيد سيقيم الخراف المباركين عن اليمين، والجداء الملعونين عن اليسار، ولسنا نعمل أسمه ديسماس أم غير ديسماس، كما تقول التقاليد، وإن كنا نعلم بالتأكيد أن التعبير الذي استعمله متى ومرقس عن اللصين، يفيد أنهما كانا قاطعي طريق، والكلمة التي استعملها لوقا تعني «المجرم» ويشجع هذا على الظن بأنه كان من الحزب الثوري المعروف بحزب الغيورين، وربما كان باراباسمن أبرز قواده، ومن المرجح أن اللصين اللذين صلبا كانا من أظهر معاونيه ومساعديه، وقد ذكرنا عند دراستنا عن باراباس، بأن هذا الحزب قد قام لمناهضة السلطة الرومانية، وأن تيطس الروماني قد قضى عليه قضاء نهائيًا عند تدمير أورشليم، كان القانون الروماني صار ما في معاقبتهم، فهربوا إلى الجبال، وعاشوا في المغاير وقد دفعهم الجوع إلى السطو والنهب، وهكذا هووا إلى اللصوصية والإجرام، وأصبح السلب والقتل حرفتهم، والفساد طبيعتهم، ومن الثابت أنه كان على علم ودراية بحياة المسيح لأنه يقول : «أما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله» (لو 23 : 41) ولا يمكن أن يقول مثل هذا القول إلا من كان على دراية تامة بأعمال سيدنا، وقد تصور البعض أن حزب الغيورين، الذي كان يهمه أن يتعرف على أخبار السيد واتجاهاته، كان يرسله لمعرفة موقفه، حتي إذا بدأت الثورة على الطغيان الروماني، سارعوا إلى الوقوف إلى جواره، والسير في ركابه، والبعض يعتقد أن اللص ربما كان نتمي إلى بيت متدين، وهناك تقليد قديم يقول إنه كان شابًا في أوائل شبابه، عندما تعرضت عائلة يسوع الطفل وهي في طريقها إلى مصر لمجموعة من اللصوص كان واحدًا منهم، ولكن منظر الطفل يسوع وجماله وبراءته أثرت فيه فإذا به يقولك «أيها الطفل المبارك إذا جاء يوم تظهر فيه رحمتك لي فاذكرني ولا تنسى ما عملته معك». وواضح أن هذا التقليد ليس له من سند يرتكز عليه، وإنما هو في واقع الحال الصدى أو الملامح المنعكسة عن الرواية الإنجيلية عنه!!

اللص
وآلامه

ليس من السهل على الإطلاق أن نتحدث عن آلام اللص التي لاشك كانت من أهم العوامل في تغير حياته، والاتيان به إلى السيد في اللحظة الأخيرة وقد يظن البعض أن آلام الصلب، هي كل آلام الرجل وتعاساته، لكنها في الواقع كانت أعمق الآلام، ونهاية مجرى النهر الطويل من المتاعب والأحزان التي عناها، وها هو الآن وشمس حياته تسرع في الأغوار إلى الغروب، وقطرات الدم النازفة منه لا تكويه فحسب، بل تعد له العد التنازلي للساعات الباقية له على الأرض، ها هو يستعرض تاريخه بأكمله الذي يبدو كشريط متلاحق أمام عينيه، ممتليء بالتعاسة والشقاء!! ترى ماذا كانت آلامه التياجترها وهو فوق الصليب!!؟ كانت آلام الذكرى الطفولة البريئة التي عاشها في حياته، قبل أن يخطو خطواته المتتابعة نحو الجريمة والشر!؟ وما أكثر الذين تمنوا أن يرجعوا إلى مهد امهاتهم، ليبدأوا القصة على نحو مغاير لما عاشوه، ومع أن طلبة اللص الآخر كانت العودة إلى الأرض، والتخلص من الصليب، لو أمكن ذلك وهو يجدف على المسيح، إلا أن اللص التائب لم يطلب هذا الطلب، وإن كان من المتصور أنه غرق في آهاته وآلامه، وهو يذكر سنواته الأولى صبيًا صغيرًا يشق طريقه في هدوء وأمن وسلام ووداعة بين الناس!؟ هل كانت الآلام هي آلام المخدوع الذي دخل الشباب بمثل عليا استهوته، وظن فيها الإنقاذ لوطنه وشعبه، وكان يحمل في مطلع الأمر، المباديء والقيم التي ظنها ستحكمه إلى النهاية، فإذا به كالسابح في المياه القوية يجرفه التيار إلى ما لم يكن يخطر له على بال!! وكم من شاب بدأ بأعلى المثل وأسماها، لينتهي على النقيض تماماً مما بدأ به،... أم هو التورط في الآثام والجرائم التي لم يجعلها قط في حسابه، ولكنه مع ذلك وجد نفسه في قلبها، وقد غاص في مستنقعها إلى الهامة وهو لا يدري!!؟ أم هي الحياة التي أدرك آخر الأمر أنها ضاعت وهي مقيدة بالمسامير في ساعاتها الأخيرة علىهذه الأرض!!؟ أم هو العذاب الذي يشويه شيًا بالعقوبة الرهيبة التي جعلته على الصليب معلقًا بين السماء والأر ض! قد تكون واحدة من هذه أو جمعيها هي التي نهضت أمام ذهنه في تلك اللحظة الدقيقة الحاسمة من حياته الأرضية!! على أنه أيا كان نوع الألم الذي سيطر على الرجل وهو فوق الصليب، إلا أنه من اللازم الإشارة إلى أن الألم وحده، كان من المستحيل أن يحكم الرجل أو يوجه أفكاره تجاه الحق الذي في المسيح يسوع، إذ أن هذا الألم كان مصحوبًا بما هو أعظم وأهم، ونعني به النعمة!! أليس من الغريب أن شيئًا واحدًا يحدث لاثنين على وجه كامل من لمشابهة، ومع ذلك فإن الأثرين الناتجين في كليهما يبعد أحدهما عن الآخر بعد السماء عن الأرض!... فالنار تذيب الشمع، ولكنها تحول الطين ليصبح قطعة من الأجر القاسي الشديد الصلابة، ... سار اللصان في الحياة على نهج واحد تقريبًا، وعاشا حياة اختلطت فيها الكثير من الأوضاع والأساليب والظروف، ومع ذلك فالألم الذي صعد بأحدهما إلى السماء، هوى بالآخر إلى الجحيم! قد تقول إن هذا هو اللغز العجيب! ولكنه مهما يكن مطمعًا بالأسرار الإلهية، إلا أنها النعمة ولاشك التي لا يستطيع الذهن البشري أن يدرك عمقها وكنهها في حياة الناس، وتشكيل قصة الحياة والموت على النحو المثير الذي نراه في الفارق الأبدي بين اللص التائب واللص الهالك، فإذا كان الظاهر في القصة أن الألم هو الذي قاد اللص إلى المسيح، فإن الحقيقة الخفية هي أنها النعمة المتفاضلة التي ربطت مصيره بنهر الحياة الأبدي، على نحو ليس من السهل كشفه في العالم الحاضر، ولعلنا نجد في الأبدية التفسير الكامل لما فاتنا فهمه في الحياة الدنيا، فإذا كان لنا أن نقنع الآن بالفحص الظاهري، فمن المحقق أن الألم هو الدافع الكبير الذي دفعه إلى التأمل والرؤية في قصة حياته بأكملها، وتقييمها دون زيف أو تصنع، ألم يفعل ذلك منسى الملك القديم الذي عاث في الأرض فسادًا وملأ أورشليم دمًا، وكان الألم هو الوسيلة العظمى التي استخدمها الله في إرجاعه إليه فقال الكتاب عنه : فلما تضايق طلب وجه الرب إلهه» (2 أخ 33 : 12) وهل يرجع يونان إلى الله، وهو يملك حريته في الهروب إلىترشيش، ألم يرجع إلى السيد بعد صلاته في بطن الحوت : «دعوت من ضيقي الرب فاستجابني صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار، فأحاط بي نهر، جازت فوق جميع تيارات ولججك، فقلت قد طردت من أمام عينيك، ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك. قد اكتنفتي مياه إلى النفس، أحاط بي غمر، التف عشب البحر برأسي، نزلت إلى أسافل الجبال، مغاليق الأرض عليّ إلى الأبد، ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي. حين أعيت في نفسي ذكرت الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك، الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم. أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك وأوفي بما نذرته للرب الخلاص» (يونان 2 : 1 - 9) عندما تمزقت يدا اللص وقدماه صاح في عمق الألم : «أذكرني يارب متى جئت في ملكوتك» (لو 23 : 42).

اللص
وإيمانه

كان إيمان اللص من أروع ما ارتقت إليه النفس المؤمنة في كل التاريخ، ولعله من الواجب التعمق في دراسة هذا الإيمان الذي لمع في قلب الظلام. كما تلمع الدرة الفريدة في أعماق الليل، لقد كان أول كل شيء هو الإيمان الحقيقي بالله، إذ يقول لزميله الآخر : «أولا أنت تخاف الله» وربما لم يكن اللص قبل ذلك ملحدًا، وعلى وجه الخصوص إذا كان من الحزب الثوري الذي كان يريد أن يطرد الغزاة، وهو ممتليء بروح التعصب للوطن وللشريعة، ولكن من الجائز إن إيمانه كان كإيمان الكثيرين الذين لا يزيد الله في حياتهم عن اسم يرددونه أو يقسمون به في الحق والباطل دون أن يكون له أدنى أثر في حياتهم أو تصرفاتهم، فهم لصوص. ومعذلك يؤمنون بالله، ولا بأس من النطق باسمه حتى وهم ينهبون أو يسرقون! في الحقيقة ، إن الإحساس بشخص الله شيء يختلف تماماً عن مجرد الإيمان بوجوده، كل الناس يؤمنون أن الجمال الطبيعي موجود ولكن بعض الناس فقط هم الذين يحسون به بقوة ويفرحون له من قلوبهم، بينما الآخرون لا يتحركون له بالمرة، وما أكثر اناس الذين لا ينكرون وجود الله، ومع ذلك يفقدون الشعور العميق المقنع بأنهم يتعاملون معه، ويتصلون به، ... تقدم رجل من متجر ولم يجد صاحب المتجر ولكنه وجد الموظف المختص بالبيع وعندئذ قال له : جوني أود الميزان قليلا فإن سيدك غير موجود الآن! ونظر جوني إلى الرجل معاتبًا وهو يقول : «إن سيدي موجود دائمًا، كان سيد جوني هو الله الحاضر في كل مكان!! ... وقد آمن به اللص وأحس بالخوف والرهبة أمامه وهو على الصليب.
ثم إلى جانب ذلك كان له الإيمان العميق بالخطية، لقد عاش سنوات طويلة في حياة الفساد والشر والأثم والإجرام وهو يكاد يفكر أن هناك شيئًا اسمه خطية، أو أن هناك عقابًا يلحق بالخطاة والأثمة والفجار، ولكنه الآن يدرك هذه الحقيقة، وعلى وجه الخصوص وهو يقارن بين بر المسيح وشره الظاهر : «أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله» لقد أخذ الرجل حقيقة بالوجه البريء المجروح إلى جواره بالسمو المرتفع تجاه شرور الآخرين الذين كانوا أشبه بالذئاب العاوية، وعاد هو ليرى خطاياه البشعة التي سودت صفحات حياته، وكان رائعًا وعظيمًا في الاعتراف بالذنب دون أوفي لف أو دوران وهو يقبل عقوبة الله العادلة له.
ثم كان أيضًا الإيمان الحقيقي برحمة الله، لقد بدأ هو وزميله في تعيير المسيح، واشترك مع الجماهير الآثمة في لهوها المزري وسخريتها بالمصلوب. فإذا به يسمع الصلاة : «يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو 23 : 34) ولعله هنا انكسر قلبه وذاب، عندما رأى الرقة تواجه القسوة، والحب يواجه البغض، والسلام يواجه فيض الحقد والشر والحماقة والضغينة!! وهنا تحول الرجل من النقيض إلى النقيض، وآمن برحمة الله وإحسانه ووجوده وغفرانه، وأدرك أنه مهما كان شره عظيمًا نحو السيد فإن غفران المسيح أعلى وأعظم، ومن ثم لم يتردد في الاتجاة إليه بالتجاوز عما فرط منه منذ دقائق خلت!
على أن هذا الإيمان بلغ السمت والذروة وهو يؤمن بملك المسيح الأبدي، وهو معلق على الصليب، ولست أريد أن أقارنه بكل إيمان آخر كما فعل الكسندر هوايت، وهو يعتقد أنه تفوق على الجميع بما فيهم إبراهيم أبي المؤمنين، والتلاميذ جميعًا، وسائر صحاب المسيح وأتباعه في ذلك اليوم الرهيب، لقد كان اللص الآخر على استعداد أن يؤمن بالمسيح إذا أنزله عن الصليب وخلص نفسه وإياها، كما أن التلاميذ جميعًا تبعثر إيمانهم، ولم يستطيعوا أن يسترجعوه إلا بالصعوبة البالغة بعد القيامة، ألم يقل تلميذا عمواس : «كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل» (لو 24 : 21) وألم يربط توما يقينه بوضع يديه في أثر المسامير قبل أن يصيح «ربي وإلهي» لكن هذا اللص آمن بالمسيح ربًا وملكًا وهو فوق الصليب وفي قلب الإهانة والعار!! لقدآمن أنه سيقوم يومًا ما، وآمن أن المسيح المصلوب إلى جواره رب وملك وسوف يسود ملكه الأبدي! وهو لا يريد أن يرجع كاللص الآخر إلى الحياة القديمة بالنزول من فوق الصليب، ولكنه يأمل في رحمة تعطيه مكانًا في ملك المسيا الأبدي، عندما يحكم ويسود، وتنتهي المباذل والمفاسد من الأرض! لقد آمن الرجل بالمسيح والأبدية، وأعطاه الله أن ينطق بهذا الإيمان بلغة لم يرتفع إليها بشرى في قلب الإهانة والعار، كما فاه بها اللص التائب وهو معلق على صليبه إلى جوار المسيح المتألم المهان، على نحو هيهات أن يتكرر مرة أخرى في تاريخ الأجيال والعصور!

اللص
وخلاصه

حقًا هناك طريق إلى السماء من باب الجحيم، أو كما قال أوغسطينوس : «هناك حياة في نظرة واحدة إلى المصلوب» ... ولابد أن المسيح في انقاذ الرجل من الجحيم لم يجعله استثناء من القاعدة، بل نموذجًا ومثالاً لحقائق ثابتة لا يمكن أن تسقط أو تضيع.

الخلاص
الكامل

ومن الواضح أن هذا الخلاص شامل كامل، وإذا كانت كلمة الكفارة تعني الغطاء أو الستر، فإن صليب المسيح قد غطى جميع خطاياه الأصلية والفعلية والموروثة والتي اقترفها طوال حياته على الأرض، ولست أعلم أن كل الرجل قد قرأ أو سمع المزمور الثاني والثلاثين لداود، إلا أنني أعتقد إن الرجل الذي تجسد المزمور فيه، يمكن من فوق الصليب أن يغنيه لجميع الخطاة والأثمة والأشرار في كل الأرض : «طوبى للذي غفر اثمه وسترت خطيته، طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية ولا في روحه غش» (مز 32 : 1 و2).
ولعله من المثير أن نلاحظ مع كامبل مورجان أن هذا الخلاص تم بدون فرائض أو معمودية أو أعمال على الإطلاق وبدون وساطة بشرية بين الخاطيء ومخلصه، وهذا يقضي قضاء كاملا على الزعم بأن دخول السماء لا يستطاع تحقيقه، لم تتح لهم فرصة المعمودية، حتى ولو كانوا أطفالاً صغارًا ماتوا عقب ولاتهم أو في صغرهم قبل أن تلحقهم هذه المعمودية، ولعل هذا يبدد ارتباط الإيمان بالأعمال، إذ أن اللص سمرت يده عن كل عمل يمكن أن يقوم به، وقدماه عن سعي يمكن أن تسعيا إليه، لقد كان الإيمان بالقلب، والاعتراف بالفم، هما كل ما كان يملك الرجل أن يقدمه، وهما الافصاح الحقيقي ظن الحياة المجددة المتغيرة التي اختبرها في اللحظة الأخيرة! لقد ولد الرجل الولادة الثانية في يومه الأخير بل في لحظاته الأخيرة!! وكانت هذه الولادة هي الشرط الوحيد لدخول الملكوت والمجد : «الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (يو 3 : 3).

الخلاص في لحظة

على أن الأمر أبلغ وأعمق، متى أدركنا أن خلاص اللص تم في لحظة واحدة، والخلاص في الأساس لقاء النفس مع المسيح وتسليم الحياة له، ولم يعلق السيد نفس اللص لحظات من الزمن طالت أو قصرت، بل أكد له أن اليوم لن ينقضي حتى يلتقي كلاهما في الفردوس، ولا حاجة إلى القول بأن المسيح لم يورد هنا أدنى إشارة إلى المطهر أو مكان راحة تستقر فيه النفس إلى يوم القيامة، وهنا لابد أن نشجب بقوة مزاعم السبتيين أو شهود يهوه الذين يزعمون أن النفس تنام إلى يوم القيامة، ثم تنهض ليبقى المؤمنون ويتلاشيء الأشرار، إن كلمة اليوم تقف في مواجهة هذه الضلالة وتقتلها قتلاً!... ولا يمكن أن تذهب النفس إلى مكان للتطهير، وتحتاج إلى الصلوات أو الشفاعات الكنسية أو ما أشبه، لكي تطير بعد ذلك إلى الفردوس، فقصة اللص التائب تقف في وجه هذا التفسير بكل قوة ووضوح!
والخلاص في لحظة هو التبرير الكامل للمذنب الآثم الذي حل المسيح محله، وأخذ مكانه في الموت والعقوبة، ومن المعروف أن المسيح مات على الصليب قبل اللصين، ولأجل ذلك لم تكسر ساقاه كما كسرت سيقان اللصين، وانتظر المسيح في الفردوس، اللص التائب الآتي إليه.
وتم كل هذا في لحظة عجيبة مذهلة دون أدنىشبهة أو تردد، وإذا كان هناك من فارق بين اللص وغيره من المؤمنين الذين يعيشون في صراع الحياة على الأرض، فهو أن التبرير والتقديس والتمجيد تمت جميعها في لحظة واحدة، أما في سائر المؤمنين فإن التبرير يتم في الحال بقبول السيد، ويصبح المؤمن بلمسة الحياة من المسيح،ابنًا وارثًا للحياة الأبدية، ومتمتعًا بالخلاص، ومضمونًا في السيد، إلى أن ينتهي إلى المجد! يقول الرسول يوحنا في مطلع إنجيله : «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه الذين ولدوا ليس من دم لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله» (يو 1 : 12 و 13)... ولعله من الطريف أن نذكر هنا أن أحد القسوس تعود أن يلتقي بضابط في جيش الخلاص، في سفرهما في عربة السكة الحديدية، وقد تعود الضابط أن يقول للقسيس : «هل أنت مخلص!؟ وصار الرجل ماذا يقول.. وسأل الأسقف مول : ماذا يكون جوابه لو كان في محله، وأجاب الأسقف وكان عالمًا متضلعًا، وقديسًا عظيمًا، يمكن أن أسأله ماذا تقصد بكلمة مخلص؟ أهي الكلمة Sotheis «سوزيس» والتي تشير إلى الماضي وتعني التبرير الذي تم دفعة واحدة بالولادة الجديدة، أم تقصد Sozomenos «سوزومنيس» وتشير إلى الحاضر في مكافحةالخطية والشر، أم تقصد الكلمة Sesosmenos «سوزوسمينس» وتشير إلى المستقبل عندما يعبر المؤمن إلى الأبدية سالمًا مضمونًا لن تعود تحيط به التجارب والمتاعب والآثام مرة أخرى، لقد عبر اللص في يوم واحد، وفي لحظة واحدة إلى حياة التبرير والتقديس والتمجيد.
صلى أحد القديسين لله وهو يقول إن النعمة التي أعطيتها للرسول بطرس أعظم مني، والإحسان الذي قدمته للرسول بولس أعلى من أن أصل إليه، وكل ما أرجوه أن تمنحني الرحمة التي أعطيتها للص التائب، وقال آخر : عندما تذهبون إلى السماء وتبحثون عن مكاني، فإني أقرب الناس إلى ليس بطرسأو بولس أو واحد من تلاميذ المسيح!! إن المكان الذي ستجدونني فيه هناك بجوار اللص الذي اتسع له غفران المسيح، وهو يصيح : «اذكرني يارب متى جئت في ملكوتك» وجاءه الجواب العظيم «الحق اقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس».



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق